سورة طه - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89)}
قوله تعالى: {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى} 20: 83 أي ما حملك على أن تسبقهم. قيل: عني بالقوم جميع بني إسرائيل، فعلى هذا قيل: استخلف هرون على بني إسرائيل، وخرج معه بسبعين رجلا للميقات. فقوله: {هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي} 20: 84 ليس يريد أنهم يسيرون خلفه متوجهين إليه، بل أراد أنهم بالقرب مني ينتظرون عودي إليهم.
وقيل: لا بل كان أمر هرون بأن يتبع في بني إسرائيل أثره ويلتحقوا به.
وقال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله. عز وجل وقيل: لما وفد إلى طور سينا بالوعد اشتاق إلى ربه وطالت عليه المسافة من شدة الشوق إلى الله تعالى، فضاق به الامر حتى شق قميصه، ثم لم يصبر حتى خلفهم ومضى وحده، فلما وقف في مقامه قال الله تبارك وتعالى: {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى 20: 83} فبقي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متحيرا عن الجواب لهذه الكلمة لما استقبله من صدق الشوق فأعرض عن الجواب وكنى عنه بقوله: {هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي 20: 84} وإنما سأله السبب الذي أعجله بقوله: {ما} فأخبر عن مجيئهم بالأثر. ثم قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} 20: 84 فكنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى 20: 84} قال: شوقا. وكانت عائشة رضي الله عنها إذا آوت إلى فراشها تقول: هاتوا المجيد. فتؤتى بالمصحف فتأخذه في صدرها وتنام معه تتسلى بذلك، رواه سفيان عن معسر عن عائشة رضي الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمطرت السماء خلع ثيابه وتجرد حتى يصيبه المطر ويقول: {إنه حديث عهد بربي} فهذا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وممن بعده من قبيل الشوق، ولذلك قال الله تبارك اسمه فيما يروى عنه: «طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق».
وقال ابن عباس: كان الله عالما ولكن قال: {وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ 20: 83} رحمة لموسى، وإكراما له بهذا القول، وتسكينا لقلبه، ورقة عليه، فقال مجيبا لربه: {هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي 20: 84}. قال أبو حاتم قال عيسى: بنو تميم يقولون: {هم أولى} مقصورة مرسلة، واهل الحجاز يقولون {أُولاءِ} ممدودة. وحكى الفراء {هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي 20: 84} وزعم أبو إسحاق الزجاج: أن هذا لا وجه له. قال النحاس: وهو كما قال، لان هذا ليس مما يضاف فيكون مثل هداي. ولا يخلو من إحدى جهتين: إما أن يكون اسما مبهما فإضافته محال، وإما أن يكون بمعنى الذين فلا يضاف أيضا، لان ما بعده من تمامه وهو معرفة. وقرأ ابن أبي إسحاق ونصر ورويس عن يعقوب {على إثري} بكسر الهمزة وإسكان الثاء وهو بمعنى أثر، لغتان. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى 20: 84} أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني. يقال: رجل عجل وعجل وعجول وعجلان بين العجلة، والعجلة خلاف البطء. قوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} 20: 85 أي اختبرناهم وامتحناهم بأن يستدلوا على الله عز وجل. {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} 20: 85 أي دعاهم إلى الضلالة أو هو سببها.
وقيل: فتناهم ألقيناهم في الفتنة: أي زينا لهم عبادة العجل، ولهذا قال موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر.
وقيل: كان رجلا من القبط، وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه.
وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان. قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً} 20: 86 حال وقد مضى في الأعراف بيانه مستوفى. {قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} 20: 86 وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم.
وقيل: وعدهم النصر والظفر.
وقيل: وعده قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ 20: 82} الآية. {أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} 20: 86 أي أفنسيتم، كما قيل، والشيء قد ينسى لطول العهد. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 20: 86 {يَحِلَّ} أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى: أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم، لان أحدا لا يطلب غضب الله، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} 20: 86 لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور.
وقيل: وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. {قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا} 20: 87 بفتح الميم، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي: ومعناه بطاقتنا. ابن زيد: لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {بِمَلْكِنا 20: 87} بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف، كأنه قال: بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطإ. وقرأ حمزة والكسائي: {بملكنا} بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله: {قالُوا} عام يراد به الخاص، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور: {ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا 20: 87} وكانوا أثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف. {وَلكِنَّا حُمِّلْنا} 20: 87 بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة، قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنهم حملوا حلى القوم معهم وما حملوه كرها. {أَوْزاراً} 20: 87 أي أثقالا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} 20: 87 أي من حليهم، وكانوا استعاروه حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة.
وقيل: هو ما أخذوه من آل فرعون، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم، وأيضا فالاوزار هي الأثقال في اللغة. {فَقَذَفْناها} 20: 87 أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب، أي طرحناه فيها.
وقيل: طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. قال قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام.
وقال معمر: الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر.
وقال ابن عباس: لما انسكبت الحلي في النار، جاء السامري وقال لهارون: يا نبي الله أألقي ما في يدي- وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي- فقذف التراب فيه، وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان كما قال للبلاء والفتنة، فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها.
وقيل: خوارة وصوته كان بالريح، لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم، وهو قول الحسن وقتادة والسدي.
وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مر هرون بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما هذا؟ فقال: ينفع ولا يضر، فقال: اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه، فقال: اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا، وكان الخوار من أجل دعوة هرون. قال ابن عباس: خار كما يخور الحي من العجول.
وروى أن موسى قال: يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم، فمن جعل الجسد والخوار؟ قال الله تبارك وتعالى: أنا. قال موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال: صدقت يا حكيم الحكماء. وقد تقدم هذا كله في سورة الأعراف. {فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى} 20: 88 أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى التشبيه، إذ قالوا {اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ}. [الأعراف: 138] {فَنَسِيَ} أي فضل موسى وذهب بطلبه فلم يعلم مكانه، وأخطأ الطريق إلى ربه.
وقيل: معناه فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا.
وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه.
وقيل: الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الايمان فضل، قاله ابن الاعرابي. فقال الله تعالى محتجا عليهم: {أَفَلا يَرَوْنَ 20: 89} أي يعتبرون ويتفكرون. في {أن}- هـ لا {يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} أي لا يكلمهم.
وقيل: لا يعود إلى الخوار والصوت. {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} 20: 89 فكيف يكون إلها؟! والذي يعبده موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضر وينفع ويثيب ويعطى ويمنع. و{أَلَّا يَرْجِعُ 20: 89} تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت {أن} وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال:
في فتية من سيوف الهند قد علموا *** أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقد يحذف مع التشديد، قال:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي *** ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك.


{وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ} 20: 90 أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم {يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ} 20: 90 أي ابتليتم وأضللتم به، أي بالعجل. {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} 20: 90 لا العجل. {فَاتَّبِعُونِي} في عبادته. {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} 20: 90 لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و{قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ} 20: 91 أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} 20: 91 فينظر هل يعبده كما عبدناه، فتوهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هرون في أثنى عشر ألفا، الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين معه: هذا صوت الفتنة، فلما رأى هرون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و{قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} 20: 92 أي أخطئوا الطريق وكفروا. {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} 20: 93 {لا} زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي.
وقيل: ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم.
وقيل: معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم.
وقيل: ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} 20: 93 يريد أن مقامك بينهم وقد عبدوا غير الله تعالى عصيان منك لي، قاله ابن عباس.
وقيل: معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي 20: 93} قيل: إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه {وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142]، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره. مسألة- وهذا كله أصل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد مضى هذا المعنى في آل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال. وسيل الامام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وأعلم- حرس الله مدته- أنه أجتمع جماعة من رجال، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، يرحمكم الله وهذا القول الذي يذكرونه:
يا شيخ كف عن الذنوب *** قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا *** ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى *** ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا ونحوه. الجواب:- يرحمك الله- مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.


{قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)}
قوله تعالى: {يا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} ابن عباس: أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره، لان الغيرة في الله ملكته، أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف أو عقوبة. وقد قيل: إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في الأعراف مستوفى. والله عز وجل أعلم بما أراد نبيه عليه السلام.
{إنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ} [20: 94] أي: خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لاتبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم، وربما أدى الامر إلى سفك الدماء، وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك. وهذا جواب هرون لموسى السلام عن قوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي 20: 93} وفي الأعراف {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ 150} [الأعراف: 150] لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم.
ومعنىَ {لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [20: 94]لم تعمل بوصيتي في حفظ- هم، لأنك أمرتني أن أكون معهم، قاله مقاتل. وقال أبو عبيدة: لم تنتظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري ف {- قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ} 20: 95 أي، ما أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم {قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل. ف {- قالَ 30} السامري مجيبا لموسى: {بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ 20: 96} يعني: رأيت ما لم يروا، رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم فلما سألوك أن تجعل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك.
وقال علي رضي الله عنه: لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام إلى السماء، أبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس. وقيل قال السامري: رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم.
وقيل: رأى جبريل يوم نزل على رمكة وديق، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال: إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا من أن يقتله فرعون، فجاءه جبريل عليه السلام، فجعل كف السامري في فم السامري، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في الأعراف. ويقال: إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف: {بما لم تبصروا} بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة {فقبصت قبصة} بصاد غير معجمة. وروي عن الحسن ضم القاف من {قَبْضَةً 20: 96} والصاد غير معجمة. الباقون: {قبضت قبضة} بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف، والقبص بأطراف الأصابع، ونحوهما الخضم والقضم، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض، ذكره المهدوي. ولم يذكر الجوهري {قبصة} بضم القاف والصاد غير معجمة، وإنما ذكر {القبضة} بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شي، يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه، وربما جاء بالفتح. قال: والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس، قال الكميت:
لكم مسجدا الله المزوران والحصى *** لكم قبصه من بين أثرى واقترى
{فَنَبَذْتُها} 20: 96 أي طرحتها في العجل. {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} 20: 96 أي زينته، قاله الأخفش.
وقال ابن زيد: حدثتني نفسي. والمعنى متقارب. قوله تعالى: {قالَ فَاذْهَبْ} 20: 97 أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ} 20: 97 أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. والله أعلم قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله *** ألا لا يريد السامري مساسا
قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة، وكان الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال: ابتلى بالوسواس واصل الوسواس من ذلك الوقت.
وقال قتادة: بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك- لا مساس- وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال: إن موسى هم بقتل السامري، فقال الله تعالى له: لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى: {فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل: لا مساس، لبعده عن الناس وبعد الناس عنه، كما قال الشاعر:
حمال رايات بها قناعسا *** حتى تقول الأزد لا مسابسا
مسألة: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه، فلا معنى لإعادته. والحمد لله وحده.
وقال هرون القارئ: ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم، وقد تكلم النحويون فيه، فقال سيبويه: هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل.
وقال أبو إسحاق: لا مساس نفي وكسرت السين لان الكسرة من علامة التأنيث، تقول: فعلت يا امرأة. قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: إذا أعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبني، وإذا أعتل من جهتين وجب ألا ينصرف، لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء، فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات: منها أنه معدول، ومنها أنه مؤنث، وأنه معرفة، فلما وجب البناء فيه وكانت الالف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين، كما تقول: اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحاق يذهب إلى أن هذا القول خطأ، وألزم أبا العباس إذا سمى أمرة بفرعون يبنيه، وهذا لا يقوله أحد.
وقال الجوهر في الصحاح: وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس. وقرأ أبو حيوة {لا مِساسَ 20: 97}. {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} 20: 97 يعني يوم القيامة. والموعد مصدر، أي إن لك وعدا لعذابك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {تخلفه} بكسر اللام وله معنيان: أحدهما- ستأتيه ولن تجده مخلفا، كما تقول: أحمدته أي وجدته محمودا. والثاني- على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. الباقون بفتح اللام، بمعنى: إن الله لن يخلفك إياه. قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ} 20: 97 أي دمت وأقمت عليه. {عاكِفاً 20: 97} أي ملازما، وأصله ظللت، قال:
خلا أن العتاق من المطايا *** أحسن به فهن إليه شوس
أي أحسسن. وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل.
وفي قراءة ابن مسعود: {ظلت} بكسر الظاء. يقال: ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت، فمن قال: ظلت حذف اللام الأولى تخفيفا، ومن قال: ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. {لَنُحَرِّقَنَّهُ} 20: 97 قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرأ الحسن وغيره: بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي {لنحرقنه} بفتح النون وضم الراء خفيفة، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم: حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف، فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد، ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك فيه، قال السدي: ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح، ثم برد عظامه بالمبرد وحرقه.
وفي حرف ابن مسعود: {لنذبحنه ثم لنحرقنه} واللحم والدم إذا أحرقا صارا رمادا فيمكن تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل: عرف موسى ما صير به الذهب رمادا، وكان ذلك من آياته. ومعنى {لَنَنْسِفَنَّهُ 20: 97} لنطيرنه. وقرأ أبو رجاء {لننسفنه} بضم السين لغتان، والنسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية، والمنسف ما ينسف به الطعام، وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع، والنسافة ما يسقط منه، يقال: اعزل النسافة وكل الخالص. ويقال: أتانا فلان كأن لحيته منسف، حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء، ونسفت البناء نسفا قلعته، ونسفت البعير الكلا ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله، وانتسفت الشيء اقتلعته، عن أبي زيد. قوله تعالى: {إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} 20: 98 لا العجل، أي وسع كل شيء علمه، يفعل الفعل عن العلم، ونصب على التفسير. وقرأ مجاهد وقتادة {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً 20: 98}.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10